كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: الصافات الطير. من قوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور: 41] والزاجرات: كل ما زجر عن معاصي الله. والتاليات: كل من تلا كتاب الله.
أو هم العلماء الصافون في العبادات أقدامهم، الزاجرون عن الكفر، والفسوق بالحجج، والنصائح، التالون آيات الله وشرائعه.
أو هم الغزاة الصافون في الجهاد، والزاجرون الخيل أو العدو، التالون لذكر الله، لا يشغلهم فيها عنه مبارزة العدو. وقد ذكر غير هذا، مما يشمله اللفظ ولا يأباه. وبالجملة، فالعطف إما لاختلاف الذوات أو الصفات. وإيثار الفاء على الواو؛ لقصد الترتيب والتفاضل طردًا أو عكسًا، أما الأول فاعتناء بالأهم فالأهم. وأما الثاني فالترقي إلى الأعلى. وصفًا، وزجرًا، مصدر مؤكد، وكذا ذكرًا، ويجوز فيه كونه مفعولًا به. قال الناصر: وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه، والخليل في مثل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1- 2]، فإنهما يقولان: الواو الثانية وما بعدها عواطف. وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم. فوقوع الفاء في هذه الآية موقع الواو. والمعنى واحد، إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها، دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق، للعطف لا للقسم. انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} الجواب للقسم، وفي تأكيد المقسم عليه بتقديم الإقسام وتوكيد الجملة، اهتمام به بتحقيق الحق فيه الذي هو التوحيد، وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به، وهو قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} فإن وجودها وانتظامها على هذا النمط البديع، من أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته، وأعدل شواهد وحدته، أي: مالك السماوات والأرض، وما بينهما من الموجودات، ومربّيها، ومبلغها إلى كمالاتها. والمراد بالمشارق مشارق الشمس. وإعادة ذكر الرب فيها، لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم. فإنها ثلاث مائة وستون مشرقًا، تشرق كل يوم من مشرق منها، وبحسبها تختلف المغارب، وتغرب كل يوم في مغرب منها. وأما قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما. أفاده أبو السعود.
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا} أي: الجهة العليا القربى من كرة الأرض: {بِزِينَةٍ} أي: عجيبة بديعة: {الْكَوَاكِبِ} بالجر، بدل من زينة. وقرئ بالإضافة، على أنها بيانية، أو على معنى ما زينت هي به، وهو ضوؤها، والمراد التزيين في رأي العين؛ فإن الكواكب تبدو للناظرين كأنها جواهر متلألئة.
{وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} أي: خارج عن الطاعة، يقذفه بشهبها، كيما يتطاول إلى استراق السمع من جهتها و: {حِفْظًا} إما منصوب بإضمار فعله؛ أي: حفظناهما حفظًا، أو بعطفه على: {زِينَةٍ} من حيث المعنى؛ أي: خلقنا الكواكب للسماء زينةً وحفظًا، أو على المفعول لأجله بزيادة الواو، والعامل فيه: {زيَّنَّا}.
{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} قرئ بالتخفيف والتشديد. وأصله يستمعون؛ أي: يتطلبون السماع. والضمير لكل شيطان؛ لأنه في معنى الشياطين. والجملة مستأنفة لبيان ما عليه حال المسترقة للسمع من أنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة الخ. أو هي علة للحفظ؛ أي: لئلا يسمعوا. فحذفت اللام ثم أنْ، وأهدر عملها. وضعفوه بلزوم اجتماع حذفين، وهو منكر. كما ذكروه في قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، أي: لئلا تضلوا، وقد يقال: إنما ينكر حذف شيئين فيما يخل بانسجام الكلام. أما في تقدير أمر له نظائر، ومرجعه إلى تحليل معنى لا يأباه اللفظ- فلا وجه للتعصيب في رده، لمجرد أن الكوفيين، مثلًا، ذهبوا إليه أو غيرهم. وشاهد المعنى أعدل من حكم القواعد، وتحكيمها: {وَيُقْذَفُونَ} أي: يرمون: {مِن كُلِّ جَانِبٍ} أي: من جميع جوانب السماء، إذا قصدوا الصعود إليها.
{دُحُورًا} أي: للدحور وهو الطرد: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} أي: شديد غير منقطع.
{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي: اختلس الكلمة: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} أي: لحقه شعلة نارية تنقضّ من السماء: {ثَاقِبٌ} أي: مضيء، كأنه يثقب الجوّ بضوئه.
تنبيه:
ذكر المفسرون أن الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء، فربما سمعوا كلام الملائكة، وعرفوا به ما سيكون من الغيوب، وكانوا يخبرونهم به، ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب، فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب، فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم.
قال ابن كثير: يعني إذا أراد الشيطان أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه؛ ولهذا قال جل جلاله: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} أي: لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى، وهي السماوات، ومن فيها من الملائكة، إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره؛ كما وردت الأخبار بذلك في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، انتهى.
قال بعض علماء الفلك: كما أن العرش تحفّة الأرواح الغيبية- حسبما تقدم بيانه في آية: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، في الأعراف- فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة مع الحيوانات، والدواب بأرواح، منها الصالح: الملك، ومنها الطالح: الشيطان، وكذلك أرضنا هذه، فيها من الملائكة، ومن الشياطين مالا نبصره: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
ولا يخفى أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم وجودها؛ كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات وللكهرباء التي تشاهد الآن آثارها العظيمة، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم، فمن الجهل الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه، على أن لنا الآن من مسألة استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض، لا نبصرها ولا نشعر بها.
وقد قدّر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض، إذا خرجت عنها إلى حيث ينقطع الهواء ويبطل التنفس، تموت في الحال. وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي في أرضنا هذه، إذا أرادت الصعود إلى السماء، والاختلاط بالأرواح التي في الكواكب الأخرى، انقضّ عليها، قبل أن تخرج من جوّ الأرض، شهاب من هذه الكواكب، أو من غيرها، فأحرقها وأهلكها، بإفساد تركيبها ومادتها، حتى لا يحصل اتصال بين هذه وتلك، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى، وهذه الشهب التي تنقضّ، إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة، كانت ملتهبة، وإن كانت صادرة من أجرام غير ملتهبة، التهبت فيما بعد لشدة سرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها في جونا هذا. ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إلى هذه الشهب ويتحدُ بها. كما تجتذب العناصر الكيماوية بعضها بعضًا.
مثال ذلك عنصر الصوديوم فإنه يجتذب إليه الأكسجين من الماء فيحلله. ولا نقول إن جميع الشهب تنقضّ لهذا السبب، بل منها ما ينقضّ لأسباب أخرى. كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له، ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين، كما بينّا هنا. والشياطين مخلوقة من مواد غازية كانت ملتهبة: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27]، والمراد بالسماء الدنيا في هذه الآية الفضاء المحيط بنا القريب منا؛ أي: هذا الجو الذي نشاهده وفيه العوالم كلها. أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا، التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظيرنا، فهو فضاء محض لا شيء فيه. فلفظ السماء له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السمو، وتُفسَّر في كل مقام بحسبه.
ثم قال: فكل مسألة جاء بها القرآن حق، لا يوجد في العلم الطبيعي ما يكذبها؛ لأنه وحي الله حقًا، والحق لا يناقضه الحق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
وقال أيضًا: يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب، ويحتمل أن بعضها ناشئ من بعض الشموس المنحلّة، أو الباقية الملتهبة، أو من براكين بعض السيارات، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن، ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعًا مشتقة من الشموس، كان مصدر جميع الشهب هو الشموس، أو النجوم. قال: وهذا يفهمنا معنى هذه الآية. اهـ كلامه.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5]، وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16- 18]، وقوله سبحانه إخبارًا عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8- 9].
{فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: فاستخبر مشركي مكة: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} أي: أقوى خلقة وأمتن بنية: {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} أي: من السماوات، والأرض، والجبال، كقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات: 27] الآية، وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]، وفي اضطرارهم إلى الجواب بصغر خلقهم وتضاؤله عما ذكر، اعتراف بأنه لا يتعالى عليه أمر بعد هذا، كشأن البعث وغيره، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ} أي: لزج ضعيف لا قوة فيه.
{بَلْ عَجِبْتَ} أي: من إنكارهم للبعث بعد اضطرارهم للاعتراف بما يحققه: {وَيَسْخَرُونَ} أي: من تقرير أمر البعث، والاحتجاج عليه.
{وَإِذَا ذُكِّرُوا} أي: بما يؤيده، أو وعظوا، وخوفوا من المخالفة: {لَا يَذْكُرُونَ} أي: ما يقتضيه؟ لتعنتهم وعنادهم، أو لا يخافون، ولا يتعظون.
{وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} أي: برهانًا واحتجاجًا على مصداقه، من آيات الكائنات في أنفسهم، أو في الآفاق: {يَسْتَسْخِرُونَ} أي: يبالغون في السخرية، بدل الاعتبار، والتدبر، والتفكر.
{وَقَالُوا إِنْ هَذَا} أي: ادعاء ما ذكر، والاستدلال عليه، والصدع بشأنه، والقراع فيه: {إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ}.
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ} أي: تبكيتًا لهم.: {نَعَمْ} أي: تبعثون: {وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} أي: ذليلون، لا جدل منكم يدفعه ولا قدرة.
{فَإِنَّمَا هِيَ} أي: البعثة: {زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي: صيحة واحدة: {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي: قيام من مراقدهم أحياء، أولو قوة مدركة، بها يبصرون، أو ينتظرون ما يفعل بهم.
{وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} أي: يوم الجزاء.
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: أنفسهم بالكفر، والمعاصي، والسعي بالفساد: {وَأَزْوَاجَهُمْ} أي: وأشباههم من الفجرة، أو نساءهم الكافرات: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ}.
{مِن دُونِ اللَّهِ} أي: من الأصنام وغيرها، زيادة في تحسيرهم، وتخجيلهم: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي: فعرفوهم طريقها ليسلكوها. والتعبير ب: الهداية والصراط؛ للتهكم بهم.
{وَقِفُوهُمْ} أي: احبسوهم في الموقف: {إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} أي: عن عقائدهم، وأعمالهم.
{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} أي لا ينصر بعضكم بعضا، وقد كان شأنكم التعاضد في الحياة الأولى. وهو توبيخ لهم وتقريع.
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} أي: منقادون مخذولون.
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي: عن القهر والغلبة؛ أي: كنتم تضطرونا إلى ما تدعونا إليه، كما في آية: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [سبأ: 33]، وقيل عن الحلف والقسم. وقيل عن جهة الخير وناحية الحق، من اليمن ضد الشؤم؛ أي: توهمونا وتخدعونا؛ أن ما أنتم عليه أمر ميمون فيه الخير والفوز، فأين مصداقه وقد نزل ما نزل؟
{قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} أي: عن الاستجابة للداعي إليها.
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} أي: لقول من يقول بالمقدمات الخيالية عن الجنون، فرد عليهم بأنه لم يأت بكلام مخيل.
{بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} أي: الذين هم أعقل الأمم، وأحكم الحكماء، فمتى يتفقون على قول مصدره الجنون؟
{إِنَّكُمْ} أي: بافترائكم: {لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} أي: في الصف مترائين، لا يحجب بعضهم عن بعض، ولا يتفاضلون في المقاعد.
{يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ} أي: شراب معين، جار كالنهر لا ينقطع.
{بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ} أي: ما يغتال العقل، ولا فساد من فساد خمر الدنيا: {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي: تذهب عقولهم.
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي: على أزواجهن أو مبيضاته تشبيهًا بالثواب المقصور، وهو المحوَّر: {عِينٌ} أي: كبار الأعين: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} أي: بيض نعام في الصفاء، مستور لم يركب عليه غبار. قال الشهاب: وهذا على عادة العرب في تشبيه النساء بها، وخصت ببيض النعام؛ لصفائه وكونه أحسن منظرًا من سائره، ولأنها تبيض في الفلاة، وتبعد ببيضها عن أن يمس. ولذا قالت العرب للنساء: بيضات الخدور. ولأن بياضه يشوبه قليل صفرة مع لمعان، كما في الدرّ، وهو لون محمود جدًا؛ إذ البياض الصرف غير محمود، وإنما يحمد إذا شابه قليل حمرة في الرجال، وصفرة في النساء. انتهى.
وحكى ابن جرير عن ابن عباس أنه عنى بالبيض المكنون: اللؤلؤ.
ثم قال: والعرب تقول لكل مصون: مكنون، لؤلؤًا كان أو غيره. كما قال أبو دهبل:
وَهِيَ زَهْرَاْءَ مِثْلُ لُؤْلُؤْةِ الْغَوَّاْصِ ** مِيْزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُوْنِ

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} معطوف على يطاف، والمعنى: يشربون فيتحادثون على الشراب، كعادة أهل الشرب، عما جرى لهم وعليهم.
وقال القاشاني: أي: يتحادثون أحاديث أهل الجنة والنار، ومذاكرة أحوال السعداء والأشقياء، مطلعين على كلا الفريقين وما هم فيه من الثواب والعقاب، كما ذكر في وصف أهل الأعراف.
{قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ} أي: في المحادثة: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي: جليس في الدنيا: {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} أي: لمبعوثون فمجزيّون؛ أي: يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب، والمعنى: فهنا قد صدقنا ربنا وعده، وأحل بالقرين وعيده، كما أشار بقوله: {قَالَ} أي: ذلك القائل: {هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} أي: إلى أهل النار من كوى الجنة، ومطالّها، لأريكم ذلك القرين.